الأحد، 5 فبراير 2012

قراءة في "طفلة تشتهيها المشانق " لسليمى السرايري

طفلة تشتهيها المشانقُ
بقلم
:سليمى السرايري

مَنْ يَسْرِقُ وَمْضَةً مِنَ الضِّياءِ
وَيُعَلِّقُ جُرْحَهُ فـي قِرْطِ الْقَمَرِ
إِذا ما تَضاعَفَتِ الْعَتْمَةُ؟
مَنْ يَـحْمِلُنا بَعيدًا ، فَكُلُّ الأَرْصِفَةِ سهام طائشةٌ؟
مَنْ يَرْسُمُ خُطانا فـي الْـمَدى
وَيُزْهِرُ شَجَرًا أَزْرَقَ فـي الْـمَمَرِّ؟
كُلُّ النواقيس التي تدق الغبار، أنتَ وَصَمْتُكَ تَرْميمٌ لخطى المنسيينْ..
****
سَيُعَرِّشُ الرَّبيعُ فَوْقَ صَدْرِ الأِشْتِهاءاتِ
يَمْنَحُكِ سماء خفيفة ونجوما تبكي
وَالنَّوارِسُ سَتَأْتـي مِنْ بَيْتِها الْوَرْدِيِّ
يا طِفْلَةً تخرج منها الظلالٍْ
قولي لي كَيْفَ أَجْتازُ الْـحَريقْ؟

****
آهٍ أَيَّتُها الراكظة فوق أصابع الريح
هَلْ ننجو من شرك القلب المريضٍ؟؟
هٰذا الْـمَكانُ جُرْحٌ قَديمٌ نَهَبُ لَهُ دَمَنا وَشَجَنَنا
نَهَبُ لَهُ جَـميعَ قَصائِدِنا الْـمُتَّشِحَةِ بالمكان الذي يأتي منسحبا
هٰذا الْـمَكانُ الذي يشد الأرض من طرفيها كقوس الفراغَ،
و الطفلةَ تصب الحدائق في بعضها وتلهو بنزق العشاقِّ
كَيْ تَعْبُرَ حَيْرَتُنا الْأَبَدِيَّةُ
الطَّواويسُ لَيْسَتْ كُلُّها جَـميلَةٌ
******
سَأُنادي الْغُرَباءَ الَّذينَ رَحَلُوا إِذَنْ
سَأُنادي كُلَّ السُّفُنِ الَّتي أَبْحَرَتْ
وَأَبتكرُ بَحْرًا آخَرَ لِسَفَرِنا الْقادِمِ

*****
وَيَأْتِـي السَّفَرُ يَتَحَسَّسُ الظَّلامَ
وَكَأَنَّ كُلَّ الْـمَرافِئِ حَـمَلَتْها الرِّيحُ إِلى شُرْفَةٍ مُشَرَّعَةٍ على غُرْبَتِنا
يَقولُ الشَّارِعُ و الموتى القدامى و الطفلة التي تسكن المرآة الحجرية قرب النهر
خُذونـي مَعَكُمْ
لا بَرْقٌ وَلا مَطَرٌ يُغْريني بِالْبَقاءِ

لا قيثارَةٌ تَعْزِفُ وَحْدَتي دونَ أَناشيدِكُمْ
وَيَأْتي السَّفَرُ مِنْ قَلْعَةِ السِّنْدِبادِ
يَـحْمِلُ فـي حَقيبَتِهِ حِكاياتِ الْعُشَّاقِ الَّذينَ قُتِلواوَاغْتالَتْهُمْ الملاحمٌ
لَـمْ يَعُدِ الشَّارِعُ يشاغب حواس آخر الليل
.
********
امْرَأَةٌ تَنْتَظِرُ فـي عُرْيٍ، الزَّمَنَ الرَّمادِيَّ
مَنْ أَنْتِ أَيَّتُها الْبَلُّورِيَّةُ الَّتي تَشْتَهيكِ الْـمَشانِقُ؟؟
وَالْوَجَعُ يَـخْنُقُ فَراشاتِكِ الْـمُلَوَّنَةَ
ما زِلْتِ رَغْمَ طَعَناتِ الْـخَناجِرِ الصَّدِئَةِ
تُراقِصينَ الْـجَمالَ
تَهَبينَ أَلْوانَكِ الْقُرْمُزِيَّةَ لِلسُّكونِ
لَكِ ما تَرْغَبينَ أَيَّتُها الطِّفْلَةُ الْغَريبَةُ
لَكْ نَجْماتٌ تَـجوبُ عَتْماتِكِ
لَكِ مَطَرٌ يَمْلَؤُكِ

لَكِ جُرْحٌ وَوَجَعٌ يَئِنُّ

وَزَوْرَقٌ يَـحْمِلُكِ إِلى الشَّمْسِ

آآآهٍ يا سَليلَةَ قَرْطاجَةَ
دَعي الْأَزْهارَ تَنْمو عَلى ضِفافِكِ
دَعي أَلْوانَ قَوْسِ قُزَحٍ تَلِجُ قَسَماتِكِ
لا شَيْءَ يُباغِتُكِ غَيْرَ غُبارِ الطُّرُقاتِ النَّائِمَةِ
****
يا امْرَأَةً تَسْكُنُ كَهْفَها الْأَزَلِـيَّ
تَعْبَقُ مِنْها عُطورُ الْبَرْبَرِيَّاتِ
أَساطيرُها تَتَجَدَّدُ مِنْ اِشْراقَةٍ جَديدَةٍ

يا امْرَأَةً تَـحْمِلُ قيامة أخرى يبعث فيها العشاق و الذين – ماتوا خلف أعمارهم
-
هَلْ تَعْبَئيِنَ بِما خَلَّفَتْهُ الْـحَرائِقُ؟؟
قُولـي أَيَّتُها الشَّفَّافَةُ

مِنْ أَيْنَ تَلِجُنا الرِّياحُ
وَحْدَكِ تُعانِقينَ الْـحُلُمَ
وَوَحْدَكِ تُطَرِّزينَ شَراشِفَ الْقَصائِدِ
يا امْرَأَةً تـحُطُّ الغيوم على كفها
تَسقط بين خطوط يديها نبوءة العرافين
حين يكتحل البحر بالغرقى و مهرجان الملحِ

****
قولي كَيْفَ كانَ صَمْتُكِ مُدُنَ ياسَمينٍ
وَصَبْرُكِ قَناديلَ مُضيئَةً

يا امْرَأَةً تَـمْنَحُ كَفَّها أُغْنِيَةً مُقْمِرَةً
لِلْعابِرينَ
لِلْحَزانى
لِكُلِّ الَّذينَ غادَروا عَلى عَرَباتِ الْوَجَعِ
قولي كَيْفَ زُيِّنَتِ الْـمَدائِنُ؟

وَجُعِلَتِ الشَّوارِعُ الْـمُقْفِرَةُ مَـمْلَكَةً؟

سَتَطيرُ إِلَيْكِ الْقَصائِدُ
اَلْفِعْلُ وَالْفاعِلُ وَالْـمَفْعولُ
و تشيعك الكمنجات .....
****
يا امْرَأَةً مَليئَةً بِالصَّبْرِتُنادينَ بِكُلِّ الْأَسْماءِ
الْغَريبَ الَّذي رَحَلَ
وَالْـجَميلَ الَّذي مازالَ يَزْرَعُكِ قَرَنْفُلَةًغَرِّدي
يا كُلَّ الطُّيورِ
وَارْتَفِعي فـي كِتابٍ بِلا فَواصِلَ
لَكِ ما تَشائينَ
مِنْ شِعْرٍمِنْ نَثْرٍمِنْ قُبُلاتِ اللَّيْلِ
وَمِنْ دَهْشَةِ الصُّبْحِ
لَكِ نَجْمَةٌ فـي جَنوبِ الْبِلادِ
وَرَعْشَةُ سَيْلٍ فـي أَصابِعِ الْـحَبيبِ
هَيَّا يا امْرَأَةً لا تَقِفُ عِنْدَ نُقْطَةِ الْوَجَعِ

عَلِّمي الرِّيحَ حِكْمَةَ القلق
.







حتى ندرك أهمّية ما نقرأه من شعر أو نثر لا بدّ أن نعدّ
أنفسنا و نجعلها في حال "قرائية"
تمكننا من استيعاب ما نحن بصدد قراءته بكل عفوية و بدون خلفيات
...

و في قراءتي لنصّ سليمى السرايري " طفلة تشتهيها المشانق "
شعرت و كأنني أقرأ لشاعرة في ربيعها الخامس عشر
أو حتى أقلّ من ذلك لأنني أحسست بالصفاء و العفوية
و بالصدق و الحماس وسط مناخ حزين مليء بالأوجاع .
فهي تريد أن تقدّم نفسها خلف كلمات بسيطة تصّاعد
بالأناشيد التي تملأ النفس أحزانا و أوجاعا .
و من العنوان نلاحظ شعورا مثيرا للاشتهاء .
اشتهاء غريب من طفلة في عمر الأحلام . فلماذا
يا ترى هذه الأنثى البلورية تشتهيها المشانق ؟
و الاجابة جاءت على لسان الشاعرة في نصّها
الذي بدأته بالعديد من التساؤلات الصادقة لتخبرنا
بأنها قابعة في خضمّ حريق مريع و هي تبحث عن
سبيل للخروج أو الفرار بأخف الأضرار :

يا طفلة تخرج منها الظلال
قولي لي كيف أجتاز الحريق ؟

و هي في حالتها تلك لم تلجأ الى المقرّبين منها
و القابعين معها في نفس المكان . بل نادت الغرباء
و استنجدت بالسفن التي أبحرت من زمان . و أكثر
من ذلك نجدها ابتكرت بحرا آخر لسفر قادم .
و مع ذلك نراها تذكرنا بأن المكان جرح قديم كان
نهب دمها و شجنها و كل ذكرياتها الجميلة . و لم
يترك لها سوى حيرة أبدية . حتى أنها كبتت كل رغبة
في البقاء و قرّرت الرحيل بدون رجعة مع الموتى القدامى و وجهها الساكن في المرآة الحجرية:

خذوني معكم
لا برق و لا مطر يغريني بالبقاء ...

و كأني بها مثل الطيور المهاجرة التي تتنقل بحثا عن
الأمن و الأمان و السعادة و الفرح .
و حتى لا يقع تأويل هذه القراءة أقول بأن الشاعرة
كشفتها كلماتها و عرّتها أحاسيسها . فهي المرأة
التي تنتظر في عري الزمن الرمادي . و هي المرأة
التي تسكن كهفها الأزلي . وهي المرأة الصامتة
و الصبورة الواقفة عند نقطة الوجع و المسيجة
بالحزن و الغربة و العتمة . و هنا لا بدّ أن أشير بأن
هذا الشعور لا بدّ أن تكون له مبررات و لا تهمّنا الآن
مسبّباته . لأن المهمّ هو كيفية الابتعاد شيئا فشيئا
عن الأفكار السوداوية و عن التشاؤم و اليأس .
و لا بد من ملىء القلب بالحب و الأمل و التفاؤل .
لأن هذا الزمن رغم غرابته ليس رهيبا و هذا
المجتمع رغم أقنعته الكثيرة ليس رهيبا . و رغم
مهارته في معسول الكلام ليس خطيرا .
فقط لا بدّ من تجاوز العقبات و لا بدّ من الابتعاد
عن الصمت و العزلة و اعلان الثورة ان لم أقل
العصيان . و هذا ما وصلت اليه الشاعرة في نهاية الأمر :

هيّا يا امرأة لا تقف عند نقطة الوجع
علمي الريح حكمة القلق ...

و في اعتقادي كان الحل الأفضل للخروج من عنق
الزجاجة الوهمي التي وضعت نفسها به منذ البداية .
و خلاصة القول سليمى السرايري شاعرة كانت على
وعي و تعلّمت من تجربتها كيف تتخلص من عقدة
ملازمة لها تسبب المجتمع في غرسها في كيانها
و في كل محيطها ...


 عمر دغرير
اديب وناقد عربي كبير/ عضو مجلس إدارة/ مدير بوابة الأسطورة النقدية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق