ثم نرتدي قميص الفراشة / شكري بوترعة

يقول الغريب الى ظله:

غدا نحتمي بالمدن
التي وهبت وقتها للشائعات
و ينزف معدن غيمها بخواتم الدساتير ...
غدا يكتب البحر
نصه الأخير حول حدادين يصنعون السماء
ثم يدقون بالمطارق غيمها فتصيح من لذة الطرق ...
وتغسل قدميك السادرتين بتفاهة الماء
في جسد الشجر الميت
غيضا من الأقفاص و التوابيت ..
ستدرك بعدها ان البحيرة لا تخون
لكنها تعلق عاشقها بدبابيس من الضوء
.. و تشرب من كفه ...
حتى يجف نبع التوتر في حواف توثبه
غدا
تحتمي بالأزهار و التهاويل من رعدة الروح...
و نسأل المدن
عن ضيق الخرافة قرب موقد الجدة
.............................................
أو نسأل عن ضيق المسافة
بين النجمة و قاع البئر .....
ثم نرتدي قميص الفراشة

و ليكن ...
نهيئ الأرض لنافورة تغسل اليوم مني...
و لتكن الريح طلقتي الصائبة ....
مطر على زغاريد العائدات من المرايا ..
مطر على هلاكي في بخار الأودية..
و الكلام توابيت الأسبيرين
في ذاكرة من خلعوا نعالهم و لم يقتلوا العقرب ...
و لأكن منشفة للبكاء
على ظلك المنحني في الفراغ..
و منشفة للضحك ....
سأكون ما اريد ..
شرفة للصداع
او شوكة في نخاع الملك...
و هذي البلاد مسبحة من سجون
للفقمات التي أينعت في ضفاف يدي
اختلال الموازين
بين
قلب يطل من خلف الزجاج الملون على دربه في المراثي
و قلب يدرب نفسه على النوم و الحلم فوق سياج المنافي .....

..............

عندما يقترب الإنسان من نفسه ليجد نفسه بعيدا جدا , أبعد ما يكون عن نفسه .. يحاول أن يكتب لنفسه وعن نفسه .. يحاول أن يتصالح مع نفسه ولكن تبقى له هذه الرحلة الطويلة ليخوض غمارها أنها رحلة باتجاه معاكس .. رحلة إلى داخل نفسه بعد أن استنفذ كل محاولات الترحال الخارجي دون جدوى .. فيتوقف مقتربا من حالة السكون ويعتكف ويعتزل العالم .. استعدادا لرحلته الأصعب والأكثر مشاق للبحث عن نفسه .. إنها رحلة إلى الداخل وربما تكون أطول رحلات العمر ..
هذه حالة تبتدئ عادة بالشعور بالاغتراب والغربة عن المحيط والبيئة .. هذا نتيجة لابتعاد كل ما يؤمن به ويتبناه ويتمسك به المرء عن مبادئ وسلوك البيئة المحيطة ولحظة الفشل الذريع في محاولة التواؤم والتأقلم والانسجام مع هذا المحيط تتعمق الغربة ويبدأ الاعتكاف استعدادا لرحلة قد تطول نحو الداخل .. إلى داخل النفس ..
يبدأ الشاعرحديثا مرسلا بعبارة شديدة التكثيف وبالغة الدلالة منطلقا من وضع الاستعداد وحالة الحاضر المستمر في رصد حيادي للنفس يبتدأ بالقول " يقول الغريب إلى نفسه " جملة ثاقبة الذكاء فيها الكثير المضمر خلف كلمات ثلاثة وحرف ..
إن الابتداء بالقول هو تعبير عن الأنا الآمر وصاحب السلطة في الفعل .. وهو الفعل الأهم هنا .. القول المثبت في حالة الحاضر المستمر الذي بقي يحمل صولجان الحكم حتى آخر القصيدة-الرحلة
ويظهر هذا الفاعل بجلاء فادح ومنذ اللحظة الأولى تحت الضوء .. إنه الغريب صاحب الرحلة وقائدها والآمر فيها يتحدث انطلاقا
من حالة غربة وبعد في رحلة يبدؤها برسالة إلى نفسه الباحث عنها والمسافر إليها .. وكانت الجملة اللفظية في منتهى الذكاء حيث تم حذف الحال " متحدثا " من الجملة الأصلية " يقول الغريب متحدثا إلى نفسه " لخلق جو فيه الكثير من الشدة والضيق والاختصار والثبات في القول ولإظهار معالم الإرسال والرسولية فيما بعد القول ليظهر وكأنه رسالة موجهة إلى النفس .. وهذا يعطي اللآمر أو القائل صفات المرسِل بما يكاد يقترب من مصاف النبوة في التعامل والتعاطي مع المرسل إليه .. وطبعا إذا كانت الرسالة موجهة إلى الظل فهذا الظل بعيدا جدا كما يراه الشاعر ..
ويبدأ فحوى الرسالة بوعد قاطع محدد بزمن .. " غدا نحتمي .. " وهذه الصيغة التي يتحدث يها بثقة عن المستقبل الذي يعرفه تماما , يحاول بها أن يكون نبيا مرسلا إلى نفسه .. أنه يظهر الآن معالم الخطيئة الفاضحة في أساس المحيط والبيئة الحيوية التي يعيش فيها .. أنه الكذب الأكثر انتشارا والأكثر حضورا في وسط يتبناه يتبنى الشائعات .. !!
هذا في غياب الشرع والدستور الحي الذي صار دساتيرا حجرية تدعي مرجعية سماوية .. في حين أنها لم تبعد عن محفزاتها ومبرراتها الأرضية أبدا ..

يقول الغريب الى ظله:
غدا نحتمي بالمدن
التي وهبت وقتها للشائعات
و ينزف معدن غيمها بخواتم الدساتير ...
غدا يكتب البحر
نصه الأخير حول حدادين يصنعون السماء
ثم يدقون بالمطارق غيمها فتصيح من لذة الطرق ...

ثم يتابع الرسول رسالته القاطعة .. أنطلاقا من الغسل وهذه حالة الحاضر المستمر الأولى بعد القول .. إنه الغسل أو التطهر
كلها مظاهر نبوية يتحلى بها الرسول في رسالته .. " وتغسل قدميك " أن القدم هي أداة السير والمسؤولة عن مشوار الحياة لا بد أن ها أول من أصيب بالتلوث ولا بد أن تتطهر ولا بد من الغسل ..
إن الماء كان دائما شعارا للنظافة يسعى إليه المغتسلون ترى لماذا ,..؟؟؟ ألأنه لديه خصائص التنظيف أهو منظف قوي . ؟؟
ويجيب الرسول . بل لأنه تافه أي بلا لون فلا يحمل أي موقف بعد من الأشياء والقضايا والعقائد المطروحة لم يتلون أو ربما يتلوث بأي منها بعد .. ليس هذا فقط بل أنه هذا الطقس الذي يشملك استعدادا لموتك ولهذا لابد أن يكون تافها كجسدك المعد للفناء .. في حين أنه يتعامل مع نفسك الحية بكثير من التبجيل حتى أنه أي الماء يستمد من نفسك معنا للطهارة يتبناه لنفسه " ويشرب من كفك " باستمرار تلك العقيدة .. حتى تفارق النفس الجسد ..
ثم ينطق الرسول بتحديد زمني آخر .. " غدا " إنه الوعد الحتمي .. أنه نهاية المطاف إنه الموت هذا الذي يهزأ بنا لأننا لا نصدق مجيئه .. كما نهزأ بخرافات الجدة ..

وتغسل قدميك السادرتين بتفاهة الماء
في جسد الشجر الميت
غيضا من الأقفاص و التوابيت ..
ستدرك بعدها ان البحيرة لا تخون
لكنها تعلق عاشقها بدبابيس من الضوء
.. و تشرب من كفه ...
حتى يجف نبع التوتر في حواف توثبه
غدا
تحتمي بالأزهار و التهاويل من رعدة الروح...
و نسأل المدن
عن ضيق الخرافة قرب موقد الجدة

الموت هو هذا الرائد لجميع مخاوفنا ودافعنا الوحيد نحو الفضيلة والبحث عن الصلاح .. والبحث عن الحقيقة وهو خطوتنا الأولى نحو السماء وهنا تبدأ حالة ما بعد الغسل .. إنها حالة السؤال في صيغة المستقبل المتوقع .. ..!! " أو نسأل عن ضيق المسافة "
هنا تبدأ رحلة التحقق من الأشياء ومن الأفكار ومن العقائد ومن كل ما آمنا به .. يطرح الرسول هنا كل شيء تحت أسنان البحث والتحقق .. حيث تصغر كل الأشياء والمسافات بعد أن تتحرر من الجسد وضوابطه ( الزمان والمكان ) .." ثم نرتدي قميص الفراشة .."
وهنا تخرج صرخة مدوية من هذا الظل المأسور كأول رد فعل في مواجهة قول الرسول .. " وليكن " إنها حالة ثبات محير
يدعيه هذا الإنسان رغم كل حديث الموت هذا ..
هل هي لامبالاة ..؟؟
أم هي استسلام لمصير ربما كان خير أمرين ,..؟؟
أهو يأس من معاقرة حياة كلها تمثيل وغش وزيف ..؟؟
أنه يبدي استعدادا لاستقبال الموت وبحفاوة غريبة " نهيئ الأرض لنافورة تغسل .. " والريح تنشف ..
إنه يعود إلى الغسل بملء رغبته أمر لا يصدق فعلا .. ولكن سيزول كل هذا لاستغراب عندما يبدأ الظل بالاعتراف بما يضايقه
ويهرب منه في هذه الحياة ..
أولا إنها المرأة وزواج فاشل بقي مجرد صورة في مرآة ..
وكذلك المرض الذي بات يحمل شبح الموت قريبا في كل لحظات العمر
وكذلك كل ما بقي من ذكريات مؤلمة سجلها هذا العمر المنهك بسقوط الأحبة وخروجهم من حياته ..

أو نسأل عن ضيق المسافة
بين النجمة و قاع البئر .....
ثم نرتدي قميص الفراشة
و ليكن ...
نهيئ الأرض لنافورة تغسل اليوم مني...
و لتكن الريح طلقتي الصائبة ....
طر على زغاريد العائدات من المرايا ..
مطر على هلاكي في بخار الأودية..
و الكلام توابيت الأسبيرين
في ذاكرة من خلعوا نعالهم و لم يقتلوا العقرب ...

وتخرج الآن الصرخة الأكثر قربا وتحديدا .. واعترافا بالموت " ولأكن منشفة للبكاء " أن موت كسبب يحتاجه الأحياء محرضا على البكاء هو صورة في غاية الجمال طرحها الشاعر - الرسول كوصف دقيق لحالة الحزن المزيف التي يحملها الباكون , فإنما الباكون على الميت هم حزانى على أنفسهم أو أنهم مجرد متظاهرين بالحزن لكسب المزيد من التأييد المزيف ..
ثم يتصدر الظل الحوار قولا قاطعا موازنا لقول الرسول في الثقة والثبات والمظاهر الرسولية " سأكون ما أريد " فعل مستقبلي
يرسم البناء القادم للنفس بكل ثقة وتوازن شديد الإيمان ..

و لأكن منشفة للبكاء
على ظلك المنحني في الفراغ..
و منشفة للضحك ....
سأكون ما اريد ..

الآن تبدا حالة الاحتمال أو الممكن المستقبلي .. في بناء النفس - الفراشة
إنها آمال وأحلام الظل مجسدة ومعلنة بكل جرأة ترسم معالم مصلح ثائر وربما نبي أكثر تماديا وتدخلا وتاثيرا في المحيط
والبيئة المزيفة الخاطئة .. " سأكون شرفة للصداع " أنه هذا الطارق في الرؤوس حتى تستفيق ..
أنه الضاغط على أفكار الحاكم المتحكم و ممسك بمقاليد التشريع والأحكام ..
إنه المخلص لهذا الشعب المحاصر والمقيد والمهزوم
إنه المخلص الذي سيعيد اختلال التوازن الداخلي للإنسان ليقفز فوق حقيقة موته المحتوم ويعيش بالأمل والحلم حتى في البعيد المنفي ..

شرفة للصداع
او شوكة في نخاع الملك...
و هذي البلاد مسبحة من سجون
للفقمات التي أينعت في ضفاف يدي
اختلال الموازين
بين
قلب يطل من خلف الزجاج الملون على دربه في المراثي
و قلب يدرب نفسه على النوم و الحلم فوق سياج المنافي .....

.. ..
كان هذا نصا فذا وجريئا مثل حوارا وجدانيا قاد فيه الكاتب ثورة حقيقية في النفس ضد كل ما هو مفروض في هذا الواقع المزيف وخرج بموقف إيجابي أكثر جرأة من نفسه ومن قدره الذي سينتهي بالموت ..
شكري بوترعة شكرا لك أيها الشاعر على هذه الإطلالة الرائعة من داخل نفسك ..!