الأحد، 2 ديسمبر 2012

هيباتيا..سليمى السرايري


هيباتيا

تهزين الثوابت المقدسة
رمزًا لرفض الجهل
ربّما توقظين الماء من سباته
ربّما توقظين أسراب اليمامات التي قتلتْ

وتشرّعين نافذة على الموج

لا أحد يتقفّى خطاك

دروب العشق مقفلة

 ها أنت تثبتين الجدران الرمليّة 
فاقطفي ما يسّاقط من مياه
ثم تطيري فوق السحاب غمامة 
قبل أن تقفلي راجعة من آخر الحلم

 هذا التاريخ، جسدك
مخاض مقدّس للقصيد

 لجعل الحضارة أكثر اتّساعا
 ابذري الآن الضوء في الممرات
 فعرائس هذا الزمان ، اغتصبتْ
 الكلاب
 تجرأتْ على العضّ
لا ترحلي هيباتيا

عودي من آخر الحكايا
قبل أن تتلاشى صورنا
وتسيل مرايا

الشاعر الكبير محمود النّجار و "نشيد ريلكا"


الشاعر الكبير محمود النّجار و "نشيد ريلكا"


الأستاذ محمود النّجار ، شاعر كبير غنيّ عن التّعريف ، إحدى قامات الشعر المعاصر على صعيد الوطن العربي ، رئيس تجمّع شعراء بلا حدود ، في عقده الخامس و خلفه مسيرة طويلة من الإنتاج و الإبداع الغزيرين ، تعرّفنا على بعضه من خلال مجموعة من مؤلفاته المنشورة ، ناهيك عن ما يُنشر على الشابكة . لَمَع ذات يوم اسمه أمامي في الشّريط المتحرّك لملتقى الأدباء و المبدعين العرب ، فسارعت متشوقا ، أبحث عن ما كتبه لنا ...

أمّا "نشيدُ ريلكا" فهو قصيدة نثرية للشاعرة سليمى السرايري ، التي تحتاج منّا للتّعريف بها ، تونسّية خضراء ، شابّة ، تخطو خطواتها الأولى في الحياة ، و في عالم الشّعر ، تفوح منها شاعرية فذّة ، نادرة ، كما تفوح بساتين الرّياحين ، فناّنة تشكيلية تتقن التّصوير بمختلف الخامات و التّقنيات ، صدر لها منذ فترة وجيزة ، ديوانا واحدا فقط ، بعنوان "أصابع في كفّ الشمس" .

هكذا أكون قد وضّحت عنوان مقالي ، أمّا بحثي عن ما كتبه لنا الأستاذ الشاعر محمود النّجار ، أوصلني إلى مجموعة الملتقيات الخاصة ، ملتقى الشاعرة سليمى السرايري ، حيث وجدت لحضرته تعليقا على قصيدة "نشيد ريلكا" ، سأنقله هنا كاملا بالحرف كما وَرد :
((هذا النص مختلف عن نصوص سليمى كلها ، وإن بدا اختلافٌ واضح في النصوص التي كتبتها مؤخرا ، فأنا متابع لنصوصها ونصوص كل الإخوة والأخوات في تونس تحديدا ، أولئك الذين التقيتهم في ملتقى تجمع شعراء بلا حدود بداية هذا العام في تونس ، وتعرفت إليهم وإلى نتاجاتهم ، وسبرت ثقافتهم وقدراتهم الفنية عن قرب .

أعني أنني أحس بأن ثمة تغييرا غير منطقي أو طفرة غير مفهومة في نصوص سليمى ، وخصوصا هذا النص الذي أحس أن سليمى اختزلت فيه كثيرا من مراحل التطور ، ولولا أنني أرفض الاتهام جزافا ؛ لقلت إنه ليس نصها . لكن حسن النية مطلوب .
النص قوي إلى الحد الذي يجعلني أستغرب هذا القفز بالزانة لرياضي كان يقفز مترين ، وإذا به يقفز فجأة ستة أمتار ..
أتمنى لسليمى التوفيق ومزيدا من الإبداع .
أرجو إصلاح هذا الخطأ ، فكلمة أسماءنا حقها أن تكتب هكذا : أسمائنا .
وَتشْعِلُ المعجزاتُ بيتاً لأسماءِنا الأولى

واقبلوا تقديري
محمود النّجار ))

نستطيع و إياكم تلخيص ما أراد قوله الشاعر الكبير محمود النّجار في هذه المداخلة ، و سنحاول وضعها على شكل نقاط ميسّرة لنتابعها واحدة تلو الأخرى:
1. الأستاذ الفاضل يتابع نصوص الشعراء ، بالتّحديد الشعراء التونسيين ، سبر ثقافتهم و قدراتهم الفنية ، و على وجه الخُصوص الشاعرة سليمى بالذات. (أليس كذلك ؟؟ هذا واضح تماما في مقالة حضرته)

2. الأستاذ الفاضل لاحظ أن نصوص الشاعرة سليمى بدأت تختلف في الفترة الأخيرة عن ما كانت عليه من قبل ، و لاحظ أن هذا النّص الأخير بالذات ، الذي نحن بصدده ، "نشيد ريلكا" ، يختلف عن نصوص الفترة الأخيرة المختلفة.

3. يوضّح الأستاذ الفاضل بأن سليمى كانت تكتب نصوص ذات نوعية ما ، ثم تطوّرت نوعية النّصوص في الفترة الأخيرة ، ثم تطوّرت أكثر في هذا النّص الأخير. و كي لا نفهم أن هذا التطوّر طبيعي ، من حقها ، مثلها مثل أي كاتب و فنان و شاعر ، قطع الشك باليقين و قال ، أن هذا التطور عبارة عن "طفرة غريبة" ، "تغيير غير منطقي" .، أي أنّه ليس التطور الذي يكتسبه الكتّاب و الأدباء و الناس عامة بما فيهم نحن و إياكم و أستاذنا الفاضل.

4. "الطفرة الغريبة" و "التغيير غير المنطقي" يشمل كلّ نصوصها التي كتبت في الفترة الأخيرة ، خاصة النّص الأخير "نشيد ريلكا"

5. كي لا نعجز عن تفسير "التغيير" و "الطفرة" التي يقصدها أستاذنا الفاضل ، قال بصريح العبارة أن هذا النّص ، أي نشيد ريلكا" ليس نصّها. ، ليس نصّ الشاعرة سليمى. 
لكن أستاذنا الفاضل استخدم أسلوبا مُستهلكا لدرجة الصّدمة ، التي يمكن أن تُصاب بها لو حصل أن رأيت كاتبا من حجمه يلجأ لاستخدام هذا الأسلوب ، فقد فعل بالضبط كمن يقول لآخر : إسمع يا هذا لو لا أنّني أرفض الشتم (مثلا) و أترفع عنه ، لقلت لك لعنة الله عليك و على والديك ، لكن لن أفعل لأن الأدب مطلوب !!!!

6. ثمّ يعلّل أستاذنا الفاضل لماذا نحى هذا المنحى ، فألقى على النّص المسئولية ، فالنّص قوي جدا إلى درجة غير منطقية ، فشبهه بقافز الزّانة الذي اعتاد أن يقفز مترين ، و فجأة قفز ستة أمتار ، و عليه ، و لهذا السبب ، النّص ليس للشاعرة سليمى.
إن لم يكن النّص لسليمى ، إذاً هو نصّ مسروق.. و للأمانة ، لم يتلفّظ أستاذنا بكلمة السرقة تحديدا ، لكنّه أوصلها للقارئ بشكل جليّ و واضح.

7. ... و كما ترون من النّص الكامل المقتبس لمقال الأستاذ الفاضل محمود النّجار ، لم نجد إسنادا لحكمه ، و لم نجد دراسة من أي نوع (مهما كان ) لـ "نشيد ريلكا" ، من المفترض على أساسها تبيان كيف خلص لهذا الاستنتاج فالحكم ، إنّما وجدنا كلاما مرسال ، و وجدنا حضرته استعاض عن الدراسة الموضوعية للنّص بتوظيف إسمه ، و شخصيته الاعتبارية ، و رصيده الإبداعي ، ثمّ أضاف لقلوبنا الطمأنينة (!) حيث صرّح بأنّه متابع للشعراء ، خاصة التونسيون ، و على الأخص ، سليمى نفسها ، بل "سبر" حتى قدراتهم الثقافية و الإبداعية ، أمّا نحن كمتلقين ، علينا الإكتفاء بهذه المرجعية الاعتبارية ، نقبلها بديلا عن الدراسة الموضوعية الممنهجة ، فنتبنى وجهة نظره ، أو ربّما نرجم سليمى بالسرقة الأدبية ، التي لو لا رفضه الاتّهام جزافا ، لقالها مدوّية و صريحة ...!!
لو كان الكاتب عاديا لما توقفنا طويلا هنا ، لكن أن يصدر القول عن شخصية أدبية مهمة كالأستاذ النّجار ، لا نملك إلاّ الوقوف عنده .
أولا وقبل كلّ شيء ، لنطرح سؤالنا المشروع : هل الأستاذ النّجار حقّا يتابع الشعراء التونسيين (تحديدا) و سليمى ( خصوصا ) و "يسبر" ثقافتهم و إبداعاتهم؟؟
لدينا من الأسباب ما توحي ، و ربّما تؤكّد عكس هذا تماما :

1. الشخصية الأدبية ، و القامة الشعرية المهمّة على الساحة العربية ، كما هو أستاذنا الفاضل بحق ، عندما يهتم بالشعراء الشباب إلى درجة "سبر" ثقافتهم و قدراتهم ، تكون لغة مخطابته لهؤلاء الشعراء ذات طابع محدّد ، الطابع التربوي النّابع من المسئولية أمام الجيل الجديد . ما لمسناه في مداخلة أستاذنا المقتبسة أعلاه ، لا يوحي بهذا الطابع التربوي ذو المسئولية العميقة ، فكما رأينا ، انعقد مقاله على اتّهام مباشر بالسرقة الأدبية دون أدلة ، دون دراسة ، فلا نجد ما يربط بين أسلوب المداخلة و بين السّمات التي من المفترض أن تُميّز الشخصية الأدبية التربوية.

2. الجملة التي تتحدّث عن متابعة أستاذنا للشعراء التونسيين ، صيغت و كأن تونس ركن في مختبر (!) ، تحت ناظريك إن شئت ، تتابع ما يحدث فيه من تغيّرات و تطوّرات ، و تتابع قدرات شعراءه و ثقافاتهم ، و هذا مستهجن جدا ، بل صياغة الجملة على هذا النّحو ، تظهر و كأنّها بُنيت على نظرة فوقية ، لا أقبل أن تُلصق بشاعرنا و أستاذنا الفاضل ، فتونس ، مع أنها بلد صغير ، إلاّ أنها تعجّ بحركة أدبية و فنية و فكرية ، أدهشت الأوساط الثقافية على عموم الساحة العربية ، بل قفزت إلى الصفوف الأولى بمجموعة كبيرة من الأسماء ، التي لا يمكن تجاهلها و لا تجاوزها في كل فروع الفنون و الأدب و الفكر ، فيما يخصّ الشعر بالذات ، و حتى لا نقول هناك مئات الشعراء ، نقول ، هناك على الأقل عشرات الشعراء الذين تصعب متابعتهم و لو بالقراءة السريعة ، حتى من قِبل النّقاد المتفرغين ، فكيف بشاعرنا الأستاذ الفاضل النّجار و أشغاله التي نعرفها كلّنا ، إذ تكفيه رئاسة تجمع شعراء بلا حدود لتمتصّ معظم وقته!!
ربّما يكون قد قصد الشعراء التونسيين الذين سجّلوا أعضاءا في منتديات تجمع شعراء بلا حدود ، و ينشرون قصائدهم هناك ، هذه الفئة على وجه التّحديد ، ربما تكون هي المقصودة . 
كي لا نظلم أحدا ذهبنا للموقع ، و كشفنا عن عضوية سليمى السرايري ، فوجدنها نشرت هناك بضع قصائد ، لم تحظ أيا منها بتعليق أو توجيه أو نصيحة واحدة من قِبل الأستاذ الفاضل النّجار ، حتى أن الشاعرة سليمى احتجت في إحدى مواضيعها بأدب ، معلنة انتظارها الأساتذة للمرور على قصيدتها ، فأجابها الأستاذ النجار بأن لا تقلق و أنه حتما سيمر ، و لم يفعل!! فهل هذا يعكس اهتماما دقيقا إلى درجة "سبر" ثقافة الشعراء و قدراتهم الفنية و تحديدا التونسيون منهم ، و على الأخص سليمى من بينهم ؟! 
ربّما يكون الأستاذ الفاضل متابعا بصمت ، لضيق الوقت، لا ننفي و لكن إن كان ، فهذا لا يتوافق مع ما صوّره لنا في مقالته المقتبسة أعلاه.

3. منذ أسابيع و أشهر قليلة جدا فقط ، تعرّض أستاذنا الفاضل ، الشاعر الكبير محمود النّجار ، رئيس تجمّع شعراء بلا حدود ، لهجوم عنيف و ظالم ، تمركز حول اتّهامه بالسرقة الأدبية ، و رأينا و تابعنا جميعا قتاله الشّرس المُستميت ، دفاعا عن شرفه الأدبي ، ضدّ"شياطين الإنس" كما أسماهم . تذوقنا معه طعم المرارة ، كدنا نُقلع عن تحمسنا للشابكة و التّعامل مع سلبيّاتها ، فكيف يقوم هو نفسه الآن ، ذو الخبرة العلقمية في هذا المجال ، بتوجيه نفس السّهام و نفس التّهم ، دون أدنى دليل ، و لو حتى دراسة موضوعية للقصيدة ، بل دون استشهاد واحد لتناصّ على الأقل ، و يقذف الشاعرة الخضراء ، الشابة ، بتهمة السّرقة الأدبية !! هل يستوي هذا مع ما رسمته لنا مداخلته المقتبسه أعلاه ، عن شخصية تربويّة مسئولة ، تتابع بدقة الشّعراء ، على الأخص سليمى ، بل "يسبر" ثقافتهم و قدراتهم ؟! سؤال علينا أن نقف عنده مستغربين معاتبين .

4. حتى لا تكون معالجتي لهذا القضية سطحية و كلاما مرسلا ، فأقع بما وقع به أستاذنا الفاضل النّجار ، سأفرد هذه النقطة لدراسة موضوعية لقصيدة "نشيد ريلكا" ، علّي أبيّن بشكل واضح و جلي ، بأنّها إحدى قصائد الشاعرة التونسية المُتألقة ، سليمى السرايري ، بل إحدى بناتها ، من لحمها و دمها ، كما باقي قصائدها و نصوصها و أعمالها الفنية التشكيلية.

الشاعرة سليمى السرايري عضوة في ملتقى الأدباء و المبدعين العرب ، منذ فترة وجيزة نسبيّا ، أهدتها الإدارة ملتقى خاصا بها ، باسم "ملتقى الشاعرة سليمى السرايري" ، تقوم بنشر أعمالها و نصوصها و مواضيعها فيه ، إلى جانب مشاركاتها في باقي الملتقيات و مشاركتها المتميّزة في المركز الصوتي التابع للملتقى.
نشرَت حتى الآن ثلاثة عشر نصّا شعريا نثريّا ، منها القصيدة التي نحن بصددها "نشيد ريلكا" تحمل الرّقم ثلاثة عشر ، أي آخر قصائدها ، و اثنى عشر قصيدة أخرى ، سنقوم هنا بدراسة سريعة للقصائد الإثنى عشر الأولى ، كوحدة أو كعيّنة واحدة ، و سندرس قصيدة "نشيد ريلكا" لوحدها بشكل منفصل ، ثمّ نقارن بينها و بين القصائد الأولى مجتمعة.
القصائد الأولى مرتّبة على النحو التالي ، من الأقدم للأحدث:-
1. مــاذا أهديــك ليلــة العيـــد؟ 2. بيني وبين دمي 3. مـــــريــــم 4. لنسكر بالضوء 5. جوليت 6. هكذا تفيض منك النوارس 7.ويكتمل الطوفان 8. طفلة تشتهيها المشانقُ 9. قد تجيئ مريم 10. أنا آخر انثى بللوريّـــــة 11. صمت كصلوات مفقودة ... 12. لا أحدَ هنا.

أولا: نلاحظ أن جميع القصائد الأولى (عدا قصيدة مريم) تستخدم ضمير المتكلم ، جميعها تتحدث بإسم أنثى ، و كلّها في حدود مضمون واحد تقريبا ، أو يسودها مضمون واحد ، هو تلك الأنثى التي تُقلّب أوجاعها ، تنتظر من يطرق باب أنوثتها ، تارة يغلبها الظمأ للعشق فتنوح ، و تارة يتقد فيها الحلم و يختلط بالواقع ، فتصف ما يدور أو مادار أو سيدور بينهما ، تتأرجح بين الوصال و الهجران ، بين الحلو و المر ، حتى قصيدة مريم التي لم تستخدم الشاعرة فيها ضمير المتكلم ، تتحدث عن هذه الأنثى ، باختصار ، القصيدة عند سليمى أنثى بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى : جسد و رغبة و حلم و تحليق و روح و ألم و خوف من الزمن و الوحدة ، لم تخرج عن ما وصفته في إحدى قصائدها قائلة : 
هل كان يعرف أني انثى مليئة بالصبر وعطر الياسمين؟
انثى تفوح بأغان غماميّة؟؟
وتبكي بصمت عند رحيل الحمام؟
و في هذا الإطار كانت قصائدها الإثني عشر الأولى ، إطار الأنوثة في لحظة بَوْح نقية شفافة ،لأجلها تكشف بجرءة عن ذاتها ، لنرى:-
1. مــاذا أهديــك ليلــة العيـــد؟ في هذه القصيدة نجد: 
أنا النائمة تحت ظلال الإنتظار..وجهي بلون الذكريات الجميلة
خذ حفنة عشق أزرق حبيبي، وسمّيني غجريّتك الجنيّة 
2. بيني وبين دمي و هنا نجد
أنا زنبقـةٌ ٌنابـتـةٌ ٌ من شقوق التـّراب ، 
أنا صرخة مكتومة ٌ بأوتار كمانِها
هُنا، أرسُم ثمرَك نجماتٍ... 
... في ليلِ عُـرسي

3. مـــــريــــم 
فمريم طفلة ٌ مسكونة ٌ بالاخضرار ،
برائحةِ الأرض..
في طــيــّاتِ الفصول تمضي
تبحث عن مملكةٍ ،
عن حلمة حلم
من ثدي فرحٍ بريّ ،
عن صفصافة ٍ تنبتُ من أصابـِعها

4. لنسكر بالضوء 
منذ آلافِ السنين 
لمْ أتعــرَّ لأطفو على ذراعيك ،
لمْ أجرّبْ الطـّيران 
لأعلـّقَ بقرطِ السّماءِ جُرحي..

5. جوليت
آه لو تأتي النوارس 
وقوس قزح يعود ليلا الى كفيّ
آه لو تطير إليّ الحقول البعيدة
وتراقصني أشجار اللوز
هل سيعود روميو حبيبي
مكلّلا بالسراب؟
وأسفك العسل البرّيّ على منامه
ويُضرم ملح البحار في دمي....

6. هكذا تفيض منك النوارس
تلك النوارس في كفّ الريح، تُضيئك
وأنا غيمة من وراء المستحيل
أنثر رغباتي في فوضى الأشياء
قناعاتي أنّك ، أنت

7. ويكتمل الطوفان
في أرق الأشياء ، 
تنتصب الآهاتُ ،
وتـَحِنُّ إلى كفّي . 
لـِتُـفـَـتِّـحَنِي في الحلم جنونا ،
فأرث من امرأة العزيز
عشقَ الأنبياء

8. طفلة تشتهيها المشانقُ
يا امْرَأَةً مَليئَةً بِالبياض 
لَكِ ما تَشائينَ
مِنْ قُبُلاتِ اللَّيْلِ
وَمِنْ دَهْشَةِ الصُّبْحِ
لَكِ نَجْمَةٌ فـي جَنوبِ الْبِلادِ
وَرَعْشَةُ سَيْلٍ فـي أَصابِعِ الْـحَبيبِ

9. قد تجيئ مريم
أنا إمرأة الوقت الراحل 
والقادم
أسكن القلاع
أغتسل بألبان النوق
في بركة من الضوء

10. أنا آخر انثى بللوريّـــــة
فأنا آخر أنثى بلوريّة
في داخلي حبلُ ضوء يبحثُ عنك
وفيه ترانيمُ عشق لعينيك

11. صمت كصلوات مفقودة ...
أنا من علمتني الفراغات أن أطفو من دهشتي
في أقاصي الجنون
لم يعد لي الآن ما يمكن مني
صمت كصلوات مفقودة ...
تتكدس فيه كل جهات الأرض

12. لا أحدَ هنا.
لا أحدَ هنا.. 
يَغرِسُ ألوانَه في زرقتـي ،
ينحتُ من ظــلـّي وطنا ،
من أصابعي، نـخـلاً ،
ومن صوتي أغنية
القصيدة الثالثة عشر "نشيد ريلكا" : بعد أن استعرضنا السياق العام الموحّد لجميع القصائد الأولى ، نسأل ، ترى القصيدة الثالثة عشر ، "نشيد ريلكا" ، المتّهمة بأنها ليست للشاعرة الخضراء سليمى ، هل خرجت عن هذا السياق ؟ خرجت عن هذا الإطار العام للقصيدة الأنثى البوّاحة؟
بمراجعتنا للقصيدة ، نجدها تؤكّد هذا النّمط الأنثوي البوّاح في أكثر من موقع ، و لا تكاد تختلف في شيء مع ما جاء في القصائد الأولى ، سأضع هنا ثلاث اقتباسات من مواقع مختلفة من القصيدة ، جاءت بهذا التأكيد:
1.تقول:
غَرِّبْ إليَّ إذنْ وارْتديني
أنا ثوْبٌ كالأحلامِ النائمةِ
جَسدٌ يفيضُ أنْهاراً وَسَواحلَ مُقفِرَةً
يَحْرِقـُني المَدُّ والجَزْرُ

2.ثمّ تقول:
لا أحَدَ غَيْرُكَ يُعِيدُ للخيولِ قافيةَ الرِّمالِ
يَزْرَعُني أُنْثى في وادٍ غَيْرِ ذي زرْعٍ
هَل قُلتُ أُحِبُّكِ ؟
هَلْ قلْتُ لا قافلةً ترْحَلُ إلى تُرابي دونَ نبْعِكَ ؟

3.إلى أن تقول:
يا طفلةً يَمْلؤُها الرَّحيلُ
أنتِ مَنْ نوّرتِ على ضفافِهِ
وزيّنتِ أعْمِدةَ قَصْرِهِ المِزَاجيِّ
عَودي مِن ثنايا الحَجَرِ
ولا تَكُفــّي عَنِ الطّـوَاف


......... / يتبع في الصفحة التالية

......... تتمّة الموضوع من الصفحة السابقة 


ثانيا:من خلا دراستنا للقصائد الأولى الإثنى عشر ، نجد الشاعرة سليمى تبني صورها الشعرية الرئيسية من عناصر تكوينية تتكرّر في كلّ القصائد ، بألوان و تشكيلات متنوّعة ، استطعنا رصد أكثر العناصر البنيوية استخداما و تكرارا ، فكانت على النحو التالي:
1. تستخدم الأرض و التراب و ما ينبت منها شجر و وورود
تستخدم السماء و الزرقة كلون سائد ، و المطر و الغمام و الريح كمخصّبات تقابل العناصر الأولى.

2. تستخدم الضوء و مصادره : الشمس و القمر و النّجوم و السماء كمسرح لها و بشكل موازي تستخدم اللقاء و العناق و العشق و الرقص و الأغنية و الطيور و خاصة النّوارس و معها البحر و المدى و الموج
كعناصر مقابلة تستخدم الليل و العتمة ، الفراق و الصمت و الهمس 

أكتفي بهذا العناصر الرئيسية ، سنقوم الآن بالبحث عنها في قصائدها كأمثلة و بشكل مقتضب ، يكفي أن نشير و ما على القارئ إلا التأكد بنفسه من باقي العناصر، لنرى:-
1. مــاذا أهديــك ليلــة العيـــد؟
أنظرفي هذه القصيدة كيف بنت الشاعرة صورها الشعرية تشكيليّا ، مستخدمة العناصر التي أشرنا إليها أعلاه:
هي السماء تفتح ذراعيها لغربتنا....تذرو لنا وردا وقرنفلا موسميّا..
(السماء مقابل ما ينبت في الأرض)

ما أروع ان نعانق المساء والليل يسدلُ جناحيه على وجوهنا الحالمة...
(تستخدم الليل و بشكل موازي العناق)

2. بيني وبين دميفي هذه القصيدة تقول مثلا:
حيث الأرضُ ترقصُ في روحي 
حيث أصابعي تعانق السماء
(لاحظ استخدام الأرض و السماء) 
هناك الجرحُ يحرُث أرضه
ليغرسَ نبْض الخصبِ .
هناك المطرُ يعزفُ للعظام العارية 

ويسقطُ في حوض الأنين

(لاحظ الأرض و المطر)

3. مـــــريــــم 
وتُشرع أبوابــَــها للرّيــح ،
لأغنياتِ المطرِ
تأتي عصافيرُ السّماء بالزرقة (لاحظ العناصر التشكيلية للصورة ، الريح ، السماء ، الزرقة و المطر)
مريمُ عاشقة الشمس
فتّحتْ أزرارَ الصّمت ،
وجاءت مـحمّلة بغابة من أقمار ،
بـالمطرِ 
(لاحظ العناصر البنيوية التي حصرناها و كيفيّة استخدامها هنا)
4. لنسكر بالضوء
تلك السّتائر أشرِعِيها
للرّياح القادِمة...
لعلّ النّوارسَ تأتي
وتسكبُ الشمسَ على وجهي سأكتفي بوضع خط تحت الكلمات التي تمثّل العناصر التشكيلية للصورة الشعرية .ي 

5. جوليت 
فهل يعود روميو حبيبي من أراضي الشمس؟؟
وهل يجمع لي قطعان الضياء من آخر السهل
ويرنّ الصدى بالمطر منغّما
الحدائق تفرّ منها الأزهار إلى نافذتي
الشمس مع الضياء ، المطر مع الحدائق المُزهرة ، قارن مع العناصر التكوينية التي تشكّل الصورة الشعرية و التي حصرناها فيما سبق.

6. هكذا تفيض منك النوارس 
تلك النوارس في كفّ الريح، تُضيئك
وأنا غيمة من وراء المستحيل
النوارس مع الضوء ، الريح مع الغيمة ، تماما كما قلنا.

7. ويكتمل الطوفان
يذرُف الدّمع غيـما ..
كي تورقَ أصابعي في المطر
صورة مركّبة ، فالدمع يذرف غيوما ، و الغيوم يمطر لتنبت الأرض فـ "تورق" الأصابع.


8. طفلة تشتهيها المشانقُ
مَنْ يَسْرِقُ وَمْضَةً مِنَ الضِّياءِ
وَيُعَلِّقُ جُرْحَهُ فـي قِرْطِ الْقَمَرِ
إِذا ما تَضاعَفَتِ الْعَتْمَةُ؟
مَنْ يَـحْمِلُنا بَعيدًا ، فَكُلُّ الأَرْصِفَةِ سهام 
طائشةٌ؟
مَنْ يَرْسُمُ خُطانا فـي الْـمَدى
كي نُزْهِرَ شَجَرًا أَزْرَقَ فـي الْـمَمَرّ
لاحظ كيف استخدمت الشّاعرة ذات العناصر في نفس النسق ، لكن في صورة أكثر تعقيدا ، الضوء و القمر مقابل العتمة التي يوازيها الرّّحيل (يحملنا بعيدا و خطانا في المدى) ، يوازيه التوق للمطر و الغمام ، الظاهر من خلال التّغني بنتائجه (نُزهر أشجارا) ثم الزُرقة أو الأزرق الذي يُكمل تلوين الصورة. 
نعود لنذكّر أننا نعطي أمثلة فقط ، القصيدة لا تحتوي على هذه الصورة فحسب ، بل مجموعة كبيرة من الصّور التي شُكّلت بذات الطريقة من ذات العناصر..


9. قد تجيئ مريم
أرجو تمعّن هذه الصور التشكيلية المنسوجة من ذات العناصر:-
قد تتألّق اللآلئ المطر

قد يعانقني نجم
على وجهي ’ قد يسقط ضياء
فأتّخذ من التّراب حرفا
أخبّئ فيه طفلي
لينبت من جديد
عندما تكبر عناقيد الضّوء
و هذا المقطع:-
و كيف نمنح للعتمة
أغنيات من الضوء
كي لا تموت الأسماء...
هناك على مرافئ الليل العتمة يقابلها الضوء و توازيه الأغنية ، الضوء الذي ينقذ من الموت ، مقابل الليل الذي يأتي بالموت أو الفراق.


10. أنا آخر انثى بللوريّـــــة
تأمّل هذه الصورة و من ثم عكسها في نفس القصيدة ، الصورتان شُكلتا من ذات العناصر في نفس النسق و الإحساس التشكيلي
تعلّمني كيف أفتح المدى للبحر
كيف أصنع من دمعاتي المبلّلة بالضياء ، نجمات

كلّما أحببته أضيء اكثر
..

وكيف من أوراقي، أصنع سفنا تحملني اليه
قلنا أن المدى و البحر و النوارس ، عناصر تستخدمها الشّاعرة مع مجموعة الضوء ، وها هي تفعل هنا ، فتربط المدى و البحر بالضياء و النجمات ، و قلنا بالمقابل ، المطر و ما يأتي به في الأرض و التراب من خصب فينبت ، و ها هي تختزل العناصر إلى النّتيجية ، فقد (أورقت) و من ورقها تصنع أداة للاتصال بالحبيب ، كلّها صور ايجابية مُفرحة لو صحّ التعبير.

في المقطع التالي تأتي بالصورة العكسيّة ، مستخدمة نفس عناصرها أيضا ، أنظر:-

كلّما جفّت سُحبي
كلّما توارى ليلي خلف الغيوم
هناك، في عتمة متعبة، ألمحهُ

11. صمت كصلوات مفقودة ... 
هذه القصيدة خلت من العناصر البنيوية لتشكيل الصورة الشاعرية التي تعودنا عليها حتى الآن في كلّ القصائد السابقة ، اختفت العناصر التكوينية المعتادة فكأن الفراغ تسلّل و حطّ فوق كلّ شيء في الكون ، لم يبق سوى الصمت ، أنظر للمقطع الجميل الذي يوصف هذه الحالة :-
صمت كصلوات مفقودة ...
يتكدس فيه كل جهات الأرض ........
يؤثث موائد للخراب القادم
ثم تقول:
كأني النقيض الذي يغفو على شبهي .....
و تقول:
الآن أفتح الساحات الخالية 
و أروقة الخيول المنبهرة بالفراغ
واضح تماما أن الشاعرة تجيد استخدام عناصرها في تشكيل صورها الشعرية ، عندما تغيب العناصر فكأن الفراغ الثقيل يجثو على صدر الكون ، هنا تظهر قدرة خارقة في تشكيل الفراغ نفسه من دون عناصرها المعتادة ، قصيدة مختلفة بعناصرها لكنّها أنثوية في ذات السياق و النسق و الأسلوب ، تستحق الوقوف عندها طويلا خارج سياق الموضع.

12. لا أحدَ هنا.
بكل ثقة أستطيع القول أن هذه القصيدة تكملة للقصيدة السابقة ، فبعد أن صوّرت الفراغ الذي حلّ و جثى فوق الكن ، فقدت (الأنثى) كلّ أملٍ في طارقٍ يطرق باب أنوثتها ، ارتدّت تطلب بقوة و جرءة نادرتين استعادة هذه العناصر التكوينية لعالمها ، لأحلامها ، بل لأنوثتها ، صرخت لا أحد هنا يعيد الأنوثة فيبعد الفراغ من الكون.
أرجو تأمل القصيدة ، هذه مقاطع على سبيل المثال لا الحصر:-
لا أحدَ هنا ..
يجرحُ غيْمِي ،
يسكُبُ وَجَعي في كوكبٍ آفلٍ.
لا أحدَ يصرُخ فيّ ،

يصهل في ليلي
و تقول:-
لا أحدَ يؤثث ما خلفتـْه تناقضاتي
ينثرني نجمَة ،
يزرعنـي عُشبةً خضراء
لاحظ ما تحته خط ، هي العناصر التكوينية للصّور الشعرية التي فُقدت في القصيدة السابقة ، فحلّ الفراغ ، ها هي (الأنثى) تصرخ صرخة تزلزل الكيان ، لتستعيدها و إلاّ انتهت الخصوبة و حلّ العدم ... الأنثى هي كلّ شيء...!!!


القصيدة الثالثة عشر "نشيد ريلكا" : السؤال الآن هل هذه القصيدة المتهمة بأنّها ليست من إبداع الشّاعرة التونسية الخضراء ، هل تختلف عن سابقاتها من حيث العناصر التكوينية التي تشكّل الصور الشعرية ؟
دعونا نرى ، ثمّ نحكم:-
يَغْزِلُ لنا الضّبابَ في لُغةٍ تأْخذُنا نائمينَ الى ليلٍ أقلَّ

تُلوِّنُ الأَبْجديّةَ بشمُوسٍ مُنسكبةٍ منْ عينيْكَ
أليست هذه ذات العناصر البنيوية المميّزة للشاعرة سليمى ، فالضباب يأتي بالليل لكنّه ليل مختلف ، أقل من الليل الذي يُحدثه مغيب الشمس ، و النقيض هنا (الشمس) ، ليست المعتادة ، كما الليل لم يكن هو المعتاد ، فالشمس تسطع من أبجديّة التّواصل هنا و تنسكب في عينيه ...


لنرى مقطعا آخر:-
تَعْلو خفيفاَ إلى السماءِ التي أوْرَثـَتـْكَ جِزْيةَ المَجَرَّاتِ

يُبلّلُني مَطرٌ أسْوَدٌ مِثلَ شَهَْوةٍ قديمةٍ أيْقظَها مِعْولٌ عَاشِقٌ
ذات العناصر المعتادة لكنّها بتشكيلات جديدة مختلفة ، فهو الذي لوّن أبجديّة تواصله بالشموس ، يعلو كما الشمس في السماء ، يستحوذ على المجرّات ، أما الأنثى بالمقابل ، يُبلّلها المطر ، المطر الذي يشبه الشهوة التي أيقظها معول (المعول من أدوات الأرض و التراب و النبت حين ينهمر المطر، أي بقيت في نفس نمط العناصر البنيوية) هذا المعول عاشقٌ للأرض – الأنثى ، التي تشبه الأرض التي تشتهي الخصب.
مقطع آخر من ذات العناصر في نفس التشكيلات الشعرية:-
يَزْرَعُني أُنْثى في وادٍ غَيْرِ ذي زرْعٍ
هَل قُلتُ أُحِبُّكِ ؟
هَلْ قلْتُ لا قافلةً ترْحَلُ إلى تُرابي دونَ نبْعِكَ ؟
هكذا نرى أن القصيدة الثالثة عشر (المتّهمة) شُكّلت معظم صورها الشعرية من ذات العناصر ، بذات النسق و الذوق الفني ، التي شُكّلت منها الصّور الشعرية في القصائد الأولى كلّها ، فهي شقيقة لهن و من ذات الصلب ، وجه الاختلاف الذي صوّره لنا أستاذنا الفاضل النّجار ، ليس اختلافا بالعناصر التكوينية ، و إنما اختلاف بتشكيل الصورة ، فهنا الصورة أكثر تعقيدا و أوسع رقعة و أكثر ألوانا ، تظهر أحيانا متعدّدة التّراكيب ، هذا الإختلاف في التّشكيل ، لا يعكس بتاتا اختلافا في المكوّنات ، و لا في الأسلوب و لا في الذائقة الفنية ، كما لا يُظهر غربة هذه القصيدة بين باقي قصائد الشاعرة سليمى. 

ثالثا: اللغة مجموعة ضخمة من الدلالات اللّفظية التي تُنظّمها مجموعة من الضوابط و القوانين ، الدلالات اللفظية ليست مُلكا لأحد ، و هي أيضا ملكا للجميع (!)، عندما يأتي الأديب أو الكاتب أو الشاعر لينشئ نصّه ، عمليّا يتعامل مع مفردات لغوية مُلكا للجميع ، ليست له ، لا يمتلكها لوحده ، يبدو أن الشاعر من دون غيره من ممارسي فنون الكتابة ، يعشق امتلاك المفردات ، هذه واحدة من أهم شطحات الشعر و جنونه : يتعامل الشاعر مع كلمات ليست ملكا له ، لكنه أثناء تعامله معها يسعى لامتلاكها ، تسكنه رغبة محموة لأن يسكن في كلماته ، لا يتسنّى له هذا إلاّ إذا استطاع أن يصنع من الكلمات سياقات و تعابير جديدة من صنعه ، تقدر أن تعبّر عنه ، أي عن نكهته الخاصة ، قبل ذلك ، قبل امتلاك الشاعر كلماته ، تظلّ الكلمات بالنسبة له غريبة (غير شاعرية) ، مسكونة بالآخرين.

بناءا على هذا ، نرى أن لكلّ شاعر مفرداته الأثيرة ، يتعلق بها وتتعلق به أكثر من غيرها ، يستخلصها من جمهرة الكلمات ، يجعلها أساسية في عباراته ، بل تصبح عنده أوتادا ينصب منها صياغاته الشعرية ، تحضره كلّما أراد الإفصاح عن شيء ما في نفسه ، يشعر بأنها لا تخونه كلما باشر التعبير اعتمادا عليها.
هذه الكلمات ربّما تمثّل شخصيته ، صفات له تميزه عن غيره ، فتصبح هذه الكلمات و كأنّها تؤثر الشخص الذي يؤثرها ، تختاره كمايختارها، فتعبر عنه كلما عبر بها ، الشاعر يحسّ هذه الكلمات و يحياها ، لها فيه امتدادا و خلجات لا تُحدثها غيرها من الكلمات ، كأن الكون من حوله و الألوان ، و كذلك خبراته الشعورية ، مبنية بالأساس من هذه الكلمات. 
هذه الكلمات أساسية تتزعم نصوص الشّاعر ، لها ما يُشبه السطوة على غيرها من مفردات في سياقات الكلام ، الكلمات الأساسية هذه جمرات تتوهج أكثر من غيرها ، تُضيء ما حولها من كلمات التي تغدو تابعة لها ، بمعنى أن لا قيمة لها ، و لا سحنة جميلة لها بدون هذه المفردات الأساسية ، فتصبح بمثابة مفاتيح للنّص الشعري ، تحكم مقاطعه و أجزاءه ، و تفرض جمالياتها عليه.
من الواضح أن لكلّ شاعر بضع عشرات أو مئات من هذه الكلمات الأساسية التي يهجع لها ، يسكن فيها ، يصيغها بألاف الألوان و الأشكال ، كأنّها عارضات أزياء تغيّر و تبدّل ثيابها في كلّ طلّة .

سليمى السرايري شاعرة كغيرها من الشعراء ، لا تفلت من هذا السياق ، فلها بالتالي مفرداتها الأساسية ، الأوتاد التي تنصب عليها صورها و صياغاتها الشعرية ، لو تمعّنا قصيدتها الثالثة عشر ، المتّهمة (نشيد ريلكا) لاستطعنا حصر مجموعة من المفردات الأساسية ، الأوتاد الأساسية للنّص ، لنحاول و نرى :-
سَكَب ، حدائق ، راحتي (كفي ، يدي) ، أصابع ، أشجار، تشعل ، أرص ، تراب ، ضباب ، ليل ، لوّن ، شمس ، عاشق ، سماء ، ضوء ، مجراّت ، مطر ، يعزف ، نشيد (تراتيل) ، جسد ، ريح ، قلعة ، غرّب (بمعنى سار غربا) ، غجريّة ، بحر، تفاصيل ، يطفو ، ارتديني(يزرعني ، يبدأني ، يحملني ...الخ) ، بحيرة (بحر) ، حلم ، أنثى ، رحل ، حكمة ، طفلة ، برد ، غربة . 
لو تمعّنا جيّدا هذه الكلمات الأساسية المُستخدمة في القصيدة المتّهمة ، لوجدنا بسهولة أنّها مفردات تدور حول العناصر التكوينية التي كشفناها فيما سبق ، التي تشكّل منها الشاعرة صياغاتها الشعرية ، فالأرض أو التراب ، رمز الخصوبة و منبت الزرع و الورد و الشجر ، يُحرث و يشقّه المعول ثمّ يُزرع ، يستقبل المطر الذي يأتي من السحاب أو الغمام ، تسوقه الرّياح ، يهطل أو ينهمر أو يتساقط .
كما أن هذه المفردات تدور حول العناصر الأخرى المتعلّقة بالسماء و زرقتها ، و الضوء و ألوانه و تلاوينه و مصادره من شمس و قمر و نجوم و مجرات ، ترتبط من خلال الزرقة و النّوارس بالبحر أو البحيرة و الموج ، و يعاكسها الأفول و الغياب و العتمة فالليل.
في التوازي هناك اللقاء و الوصال و العشق و العناق و القُبل ، يعاكسها الرّحيل و مفرداته.
هذا هو عالم سليمى السرايري على ما يبدو ، مكونا من الأرض و السماء ، المطر و الرّياح ، الضوء و العتمة ، اللقاء و الفراق.

لكي نتأكّد من المفردات الأساسية التي كشفنا عنها في القصيدة المشكوك بأمرها ، بأنّها مفردات خاصة بالشاعرة ، و ليست مفردات غريبة عنها ، تخصّ غيرها من الشعراء ، استولت عليها أو سرقتها ، علينا الذّهاب لقصائدها الأخرى الإثنى عشر الأولى ، لنرى هل تتكرّر هناك هذه المفردات و في نفس الصياغات ؟؟
دون أن نتوسّع ، سنورد ما توصلنا إليه ، راجيّن القُرّاء التأكد بأنفسهم ، بعملية سريعة و بسيطة من خلال قراءة عشوائية لبعض تلك القصائد ، أمّا نحن فقد وجدنا جميع هذه المفردات تتكرّر في كلّ قصيدة من القصائد الإثنى عشر الأولى ، بل إن هناك مفردات لا تكاد قصيدة واحدة تخلو منها ، مثل : الضوء (أو الضياء و الأضواء و مشتقات المفردة ) الشمس السماء ، الريح المطر ، التراب ، الأرض ، الكف و الرّاحة و اليد و الأصابع ، حديقة و زهور و حقول و أشجار ، فصول و تفاصيل ، بحر و نوارس ....الخ
إذاً هذه هي مفردات سليمى الأثيرة ، أوتادها التي تنصب عليها صياغاتها الشعرية ، مفرداتها التي تسكنها و تعبّر فيها ، تجسّد عالمها ، مُلكها وحدها ، لا يشاركها فيها أحد ، فكيف سنتجرّأ بعد هذا الكشف على القول أن قصيدة "نشيد ريلكا" تُشكّل "طفرة غريبة" و هي ليست للشاعرة بل تخصّ شاعرا آخر؟؟؟!!!

رابعا: من المفردات الأثيرة سابقة الذكر ، تظهر جمل قصيرة مكوّنة من كلمتين ، تمثّل تعابير (مقدّسة) عند الشاعر ، شأن سليمى في ذلك شأن باقي الشعراء ، فمثلا نجد تعابير مثل "تسكب الحدائق" ، "قرط السماء" ، "قلعة الريح" ، "حكمة العشّاق" ....الخ ، ظهر بعضها في القصيدة المتّهمة ، لكن وجدناها تتكرّر في القصائد الأخرى ، ليشكّل هذا دعما إضافيا لأصالة قصيدة "نشيد ريلكا"

بناءا على كلّ ما تقدّم نرى أن قصيدة "نشيد ريلكا " للشاعرة التونسية الخضراء ، هي قصيدة أصيلة لها ، هي إحدى بناتها ، من صُلبها ، من لحمها و دمها ، مبنية من ذات العناصر التكوينية التي بُنيت منها قصائدها الأخرى ، بذات الأسلوب و الذائقة الفنية ، استخدمت فيها مفردات و تعابير خاصة بالشاعرة ، تكرّرت في كلّ القصائد دون فرق .


أخيرا أودّ أن أنوّه إلى أنّنا في ملتقى الأدباء و المبدعين العرب ، نهتم بكافة أصناف فنون الكتابة و على رأسها الشعر ، كما نهتم بجميع مجالات الفكر الإنساني و الفلسفة و الأعمال النقدية ، و نحن في هذه المجالات جميعها ، لا نقل أهمية ، و لسنا دون غيرنا من حيث النّوع ، حتى مقارنةً مع منتديات مُتخصّصة أخرى في أي من هذه المجالات ، لذا نجد من الصعوبة بمكان تقبلنا للغة غير متخصّصة ، و لنشاطات غير موضوعية غير منهجية و غير احترافية ، خاصة في المسائل المهمّة و الحسّاسة ، بالتحديد من قبل أشخاص نكنّ لهم كلّ المحبّة و التّقدير ، لذا نعتبر مداخلة الأستاذ الفاضل الشاعر محمود النّجار من هذا القبيل ، و نأسف أشد الأسف لعدم تقبلنا إياها ، و ردّها لحضرته ، لأنّها خارج السّياق التخصّصي و خارج النطاق الموضوعي الممنهج ، و نعتذر لشاعرتنا الرقيقة سليمى السرايري ، لما قد يكون أصابها حتما من ألم جراء ذلك.

انتهى



حكيم عباس 
http://www.almolltaqa.com/vb/showthread.php?65554